وحیث کانت معرفة هذه الحروب مهمة فی نظر الإسلام فإن معرفة نصوص القرآن الکریم وأصول الحدیث والفقه أهم بأضعاف مضاعفة. ذلک لأننا بواسطة هذه العلوم نصل إلى معرفة فروض الأعیان والتمییز بین الحلال والحرام بینما لا نصل إلى معرفة ذلک من خلال الحروب المذکورة. وعلى هذا فإن طلاقة اللسان ومعرفة هذه الحروب وتلک الأحداث لا تجعل الإنسان عالما ما دام یجهل فروضه والواجبات علیه. ولا ینبغی للمسلم أن یصرف همته فی تعلم هذه الحروب وتفاصیلها وأن یستغرق أوقاته فی تتبع مواقعها ونتائجها، حین لا یعرف شیئا عن أمور دینه وأحکام عباداته.بل الواجب علیه أن یهتم أولا بتطهیر قلبه وتحسین سلوکه وأخلاقه ثم یسعى إلى معرفة ما یصلح به فرض عینه من أحکام الصلاة والطهارة، والصیام. وما إلى ذلک من فروض الأعیان. وله بعد ذلک أن یتعلم ما یشاء من فروض الکفایات التی من بینها هذه الحروب وتلک القصص والحکایات. ومهما تغافل المرء عن تعلم فروضه العینیة واشتغل بما دونها من القصص والحکایات لیمیل إلیه قلوب العامة ویستجلب مشاعرهم ورضاهم کان مضیعا للوقت وخاسرا فی الحال والمآل.

الإسلام وأهدافه فی توحید الأمة الإسلام هو الدین الحنیف الآمر بالتآخی والتآلف، والناهی عن التقاطع والتخالف، ویهدف هذا الدین القویم من خلال أوامره الربانیة وتوجیهاته النبویة إلى خلق جو یسوده التفاهم والتحابب بین أفراد المسلمین وجماعاتهم وینادی بأعلى صوته إلى الاعتصام بحبل الله وإلى إصلاح الأخوة الإسلامیة ورعایة حقوق الجوار فی جمیع المستویات. ویحرص هذا الدین کل الحرص على التماسک والتحابب بقدر ما یکره التباغض والتخالف. قال الله تعالى: (... ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ریحکم... * الأنفال: 46) وقال أیضا: (واعتصموا بحبل الله جمیعا ولا تفرقوا * آل عمران: 103) ویقول الرسول صلوات الله وسلامه علیه: (لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وکنوا عباد الله إخوانا) رواه أنس وقال علیه السلام: (المؤمن للمؤمن کالبنیان المرصوص یشد بعضه بعضا) رواه البخاری ومسلم وقال أیضا: (لا یؤمن أحدکم حتى یحب لأخیه ما یحب لنفسه) رواه البخاری ومسلم والإسلام أحرص شیء على التوافق والتعاون بین أبنائه ویظهر ذلک جلیا فی کل توجیهاته، وتعلیماته، وخاصة فی قواعده الخمس التی هی: الشهادتان، والصلاة، والزکاة، والصوم، والحج. فالشهادتان تشکلان المورد الإلهی العذب، الذی ترده القلوب والألسنة بین حین وآخر، فترتوی من ماء التوحید الذی هو السبب الإیجابی للحیاة الأبدیة والسعادة السرمدیة والشهادتان - بالمعنى الصحیح - تعبران عن لفظ التوحید ومعنییه الحقیقیین وهما أساس القواعد الخمس التی بنى علیها الإسلام. والصلاة هی اجتماع مفروض بین المسلمین یومیا لیقوموا إلى عملیة العبادة بحرکات متحدة من قیام، ورکوع، وسجود، وجلوس، وسلام. ویتکرر هذا الاجتماع خمس مرات فی الیوم، فیترتب منه التعارف بین المسلمین والتآلف والتعاون فی کل المجالات.

أما الزکاة فهی من أجل مظاهر التعاون والتراحم بین المسلمین ومن أسرع جوالب التحابب والتعاطف بین الأغنیاء والفقراء، فالغنی یأخذ کل سنة جزءا من ماله الخالص لیضعه تحت تصرفات أخیه الفقیر وهو لا یرید منه الجزاء ولا الشکور. بل یعد ذلک من الواجبات الاجتماعیة التی أوجبتها علیه أحکام الشریعة الإسلامیة العادلة. ثم یأخذه منه ذلک المحتاج شاکرا إیاه والإسلام معا. ثم یأتی دور الصوم وکأنه یرید من الغنی أن یتعرف على الظروف التی تحیط بالفقیر فیعیش معه نفس الظروف، من الجوع والعطش طیلة شهر کامل لیتسنى له بین حین وآخر، أن یتذکر أحوال إخوانه الجائعین وذوی الفاقة فیعطف علیهم ویواسیهم بما تملکه یداه فیحصل له من الله الأجر ومن إخوانه الشکر. ثم الحج الذی هو المؤتمر السنوی للمسلمین حیث یتوجهون کل سنة إلى أقدس الأماکن وأشرف البقاع. وهی مکة المکرمة لأداء فریضة الحج ولزیارة الرسول (صلى الله علیه وآله وسلم) فی المدینة المنورة وهو فرصة سانحة یغتنمها المسلمون لفائدتهم الدینیة والدنیویة فی آن واحد... والحج مظهر رائع من مظاهر التشابه والمساواة بین طبقات المسلمین من الأغنیاء والفقراء وداع من دعاة التعاطف وعدم التخاصم فیما بینهم قال تعالى: (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فی الحج * البقرة: 197) تلک هی قواعد الإسلام الخمسة وهذه، توجیهاتها وتعلیماتها وکلها تهدف أساسا إلى توحید صفوف المسلمین وجمع کلمتهم واحترام بعضهم بعضا. ویتبین للمسلمین من خلال تأملهم إلى هذه القواعد الإسلامیة وتأثیراتها فی المجتمع بأنهم مطالبون بالتعاطف والتماسک بدلا من التخالف والتخاصم کما هو الواقع الیوم. ومن هنا نرى ونحکم أن کل دعوة أدت إلى التفرقة والشقاق بین أفراد الأمة فهی دعوة باطلة بأدلة الکتاب والسنة. وهی بالتالی دعوة بریئة من الإسلام، والإسلام برئ منها مهما بلغ تأثیرها فی قلوب العامة ومهما کثر أنصارها وأتباعها. وفی الحدیث: (أیما رجل قام یفرق بین أمتی فاضربوا عنقه) فالدعوة الوهابیة کما لا یخفى على أحد کانت وما زالت مصدر الاختلاف و

الخصومات بین المسلمین، من لدن عهد أحمد بن تیمیة المؤسس الأول [1] لهذه الدعوة إلى عهد محمد بن عبد الوهاب الذی جددها بعد أربعمائة سنة من وفاة ابن تیمیة الذی کان قد واجه تهما شتى، مما أدى فی الأخیر إلى الحکم علیه بالسجن مدى الحیاة بسبب تلک الدعوة وقد ظل مسجونا إلى أن وافته المنیة رحمه الله. وهنا نلفت انتباه القارئ الکریم إلى أن أحمد بن تیمیة هذا کان واحدا من أکابر العلماء وکان فقیها مشهورا بالزهد والتقى، ویضرب به المثل فی علم الحدیث وکان یلقب بشیخ الإسلام إلا أنه خالف جمهور العلماء فی بعض المسائل الشیء الذی حط بدولته، إلى أسفل الدرجات ولا غرابة فی ذلک فالجواد قد یکبو والسیف قد ینبو. فقد کان من أمره أنه یمنع السفر لزیارة قبر النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) ویحرم التوسل والاستغاثة بالأنبیاء والأولیاء ویقول بأن ذلک من الشرک بالله کما کان یطعن فی السادة الصوفیة وفی أکابرهم من أمثال الإمام الجنید البغدادی (المتوفى سنة 298 ه‍.) وأبی یزید البسطامی (المتوفى 231 أو 261 ه‍.) وابن الفارض (المتوفى سنة 636 ه‍.) والإمام الغزالی (المتوفى 505) وأضرابهم وکان یهاجم علیهم بأفظع العبارات ویبالغ فی الرد علیهم وعلى منهجهم الصوفی. وذلک أیضا هو النهج الذی سلکه خلیفته محمد بن عبد الوهاب وأتباعه المعاصرون. وهناک مسائل أخرى یتعلق بعضها بالأصول وبعضها بالفروع خالفوا فیها جمهور العلماء وصاروا بها موضع الجدل والخصومات بین المسلمین. أما محمد بن عبد الوهاب فقد ظل هو الآخر یعانی مدة حیاته حروبا حامیة الوطیس بینه وبین علماء عصره الذین کانوا یعارضونه تماما ویعتبرون دعوته من أخطر الدعوات فی تاریخ الإسلام. فقد رد علیه بعض الأساتذة والعلماء بأبلغ الرسائل والمؤلفات یحذرونه فیها من مغبة هذه الدعوة ویناشدونه التوقف عن شن هجوماته ضد المسلمین الأبریاء الذین یستحیل تواطؤهم على الکذب والضلال. ومن بین أولئک العلماء کبیر مشائخه وهو الشیخ محمد بن سلیمان الکردی [2] الذی قال من جملة کلامه إلیه: یا ابن عبد الوهاب إنی أنصحک لله تعالى أن تکف

(هامش)

(1) أحمد بن عبد الحلیم ابن تیمیة الحرانی المتوفى 728 (2) المتوفى سنة 1194 (*)...